جواب حاسم لأميرالمؤمنين(عليه السلام)
انّ من أبرز المشاكل الّتي حفل بها المنهج الاصلاحي لأميرالمؤمنين(عليه السلام) يوم ولي الحكم، مشكلة الفقر والغنى. ولقد كان مجتمعه إذ ذاك يعاني جراحاً عميقة بسبب هذه المشكلة، فقد ولي الإمام الحكم والتفاوت الطبقي في المجتمع الإسلامي على أشد ما يكون عمقاً واتساعاً. ففي العهد السابق على ولاية الإمام(عليه السلام) للحكم كانت الطريقة المنبعة في التقدير وإظهار الكرامة هي التفضيل في العطاء. وقد اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات بصورة خارجة عن حدود المعقول والمقبول، ففضل من لا سابقة له في الدين ولا قدم له في الإسلام على ذوي السوابق والأقدار. وقد أوجد هذا اللون من السياسة المالية طبقة من الأشراف لا تستمد قيمتها من المثل الأعلى للإسلام، وإنّما تستمدها من السلالة والغنى والامتيازات التيى لا ماض عريق لها، وكان من نتائج ذلك أن أحس الفقراء الضعفاء بالدونية واستشعر الأشراف الاستعلاء، وحرم الفقراء المال الّذي تدفق إلى جيوب الأغنياء. فلما ولي الإمام الحكم ألفى بين يديه هذا الأرث المخيف الّذي يهدد باستئصال ما غرسه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في نفوس المسلمين. وقد عالج هذا الواقع الّذي سيق إليه بالتسوية بين الناس في العطاء، فالشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعربي والعجمي، كلهم في العطاء سواء، فلم يجعل العطاء مظهراً للتفاضل بين الأفراد والأفراد والطبقات والطبقات. وبهذا أظهر للناس أن القيمة ليست بالمال، وحال بين الفقراء والضعفاء وبين الشعور بالدونية، وبين الأشراف والأقوياء وبين أن يشعروا بالاستعلاء. وأهاب بالناس أن يتوبوا إلى الله فيجعلوا التقوى مناط التفاضل ومقياس التقويم.
وقد ثارت الطبقة الارستقراطية لسياسة المساواة المالية الّتي قام بها الإمام فأشاروا عليه أن يصطنع الرجال بالأموال، فقال: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَميرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ. أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ».
ولم يكن هذا كلّ ما ينتظر الطبقة الارستقراطية على يديه يوم أمسك بالزمام، لقد كانت أموال الاُمة تتدفق ـ تحت عينيه ـ قبل أن يتولى الحكم إلى جيوب فريق من الناس، فأخذ على نفسه عهداً بمصادرتها، بردها إلى أهلها، وكان أن أعلن للناس يوم ولي الحكم مبدأ من جملة المبادىء الّتي أعدها لمحاربة الفقر الكافر في مجتمعه الموشك على الانهيار، فقال:
«ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإنّ الحقّ لا يبطله شيء. وَلَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَفرق في البلدان، فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ».
وكم كان يقض مضجعه عدم التوازن في توزيع الثروات في زمانه(عليه السلام)، فتراه يصرخ أكثر من مرة، من على منبر الكوفة، بمثل هذا القول: «وقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَن لاَ يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَالشَّرُّ إِلاَّ إِقْبَالا، وَالشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً... اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلا اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْموَاعِظِ وَقْراً! أَيْنَ خِيارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ في مَكَاسِبِهِمْ، والْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ؟».
ولا يعالج الفقر عند الإمام بالمواعظ والخطب، وإنّما يعالج بحماية مال الاُمة من اللصوص والمستغلين، ثمّ بصرفه في موارده.